عندما يصلك خبر قوي و صادم، ما الذي تفعله؟
ما هو رد فعلك عندما يكون الخبر هذا عنك انت؟
هذا ما دار في خلدي بعدما تلقيت خبر اصابتي بمرض نادر و كان مسببه ورم سرطاني، و بعدها خبر استئصاله مع رئتي.
بالبداية اصابتني صدمة قوية و بكيت حتى جفت مقلتاي، و لأني في الغالب انسانة ايجابية و انظر لكل شيء بمنظور فكاهي و اضحك على الحلو و المر، قررت ان اتجرد من مشاعري هذه و اراقب الحدث من الأعلى، مثل الطائر الفضولي، و لأنه خبر جلل و لا يحتمل ان اخفيه عن الاخرين، قررت ان اخبر من هم حولي بالتدريج حتى لا اصدمهم، ثم اراقب تصرفاتهم و اتقبلها كما هي.
ذكر الكاتب أحمد حسن مشرف في احدى مقالاته الأخيرة عنوانها "يا صديقي، لا أحد يهتم بك" أن لا احد يكترث بك او بمشاعرك او بحسن نواياك بنفس القدر الذي يكترثون فيه لمصالحهم الشخصية، و أن هذا امر طبيعي و إنكاره ضرب من الوهم.
و أن لا أحد يهتم بك إلا امك، حباً فيك. أما البقية فهم -دون عيب- يبحثون عن المقابل. المقابل الذي يجعل حياتهم أفضل قليلاً.
قد اتفق مع بعض ما ذكره أحمد، و لكن لا استطيع ان أجزم او أبت في ذلك دون أن اجرب، و التجربة -كما تقتضيه الأمانة العلمية- يجب ان تكون على عدد كبير من الناس و بمعايير معينة موثقة و قابلة للتكرار، و لكن ماهو المقياس الفعلي للإهتمام؟ هل هناك إستبيان معتمد أم هي تجربة و بحث يعتمد على الحدس و التقييم الذاتي؟
الجدير بالذكر ان تجربتي التي قمت بها لتقييم مدى اكتراث الناس بي كانت تجربة علمية شخصية بحتة، لم أعول عليها مشاعري و لا علاقتي مع الأشخاص الذين لم يجتازوا هذه التجربة بالمعايير التي اضعها لنفسي شخصياً لأثبت اهتمامي بغيري. و هذه التجربة أيضاً ليست سوى مطالعة لما يحدث حولي بشيء من الفضول و التدريب على ان اجرد نفسي من المشاعر تماماً و أن اتقبل الأخرين كما هم.
و النتيجة هالتني بتفاوت ردات الفعل من الأهل و الأصدقاء، و كلها -كما اعتقد او كما اتمنى- منبعها الإهتمام و المحبة و الخوف علي، و يبدو اني وقتها نسيت وعدي لنفسي الا تغلبني مشاعري و لم اقاوم غمرة السعادة و الإطمئنان الذين ساعداني ان اتخطى مشاعري السيئة و ابتسم كلما ارسل لي احدهم انه يدعو لي.
في البداية، كتبت تدوينة مجدولة نُشرت اثناء العملية لأخبر قراء مدونتي الأحباء عن حالتي و غيابي، سررت بكمية الردود الجميلة و الأدعية التي وصلتني من كل القراء اللطيفين، كلماتكم كانت مثل البلسم، حتى و ان لم استطع ان ارد عليكم فأنا سعيدة و ممتنة لكلامكم الطيب.
الأشخاص من حولي أيضاً كانت ردات افعالهم متفاوتة، فمنهم من يواسي بالكلام و السؤال المتكرر و منهم من يواسي بالصمت و الإبتعاد ظناً منهم انهم قد يضايقوني بكثرة السؤال الذي لا امانعه بالطبع، و البعض الأخر ظهر من بعد غياب طويل للسؤال عني و اظهار اهتمامهم بي بالرغم من البعد و كم انا ممتنة لذلك.
منهم من كانت ردة فعله عملية جداً، كأن يمدني بالمساعدة و التخطيط للحياة أثناء المرض و الدعم النفسي و المرافقة في كل مواعيد المستشفى مثل زوجي، و قد كنت احتاج ذلك بشدة لأن عقلي مشوش جداً من الصدمة، و منهم من أتى مسرعاً الى لندن للإطمئنان علي و مساعدتي، و هؤلاء هم اخوتي الثلاثة جميعهم حفظهم الله لي.
اما بطلة رحلة التعافي هي حبيبة القلب أمي التي لم تتوانى و لم تتأخر دقيقة واحدة، أتت بكل ما تحمله من حنان و طيبة و دعاء و مواساة و اهتمام، رعتني و اهتمت بي كما لم يهتم بي احد من قبل، و نشرت السعادة و الضحك في بيتي و اطعمتنا ألذ الأطباق، و ان كنت لم آكل سوى لقيمات بسبب انعدام الشهية المزمن الذي اشعر به. امدتني بالقوة التي احتاجها هذه الفترة و الطمئنينة انه لا يمكن ان يحصل لي مكروه بإذن الله و هي بجانبي. لا أعلم كيف أرد هذا الجميل الذي اغرقتني به هي و ابنائها و زوج ابنتها (زوجي انا).
اخبرت طفلّي دانة و منصور حتى لا يتفاجأن عندما يراني طريحة الفراش، منصور لم يستوعب لصغر سنه، أما دانة فقد اغرقتني بالأسئلة فشرحت لها انهم وجدوا بعض البثور (اقصد الورم و لكن بلغة مخففة) في رئتي و سيزيلونها، كانت متأثرة جداً و ان كانت تخفي هذا التأثر خلف ضحكاتها و غضبها على الأطباء، و كتبت لي الكثير من الرسائل، عندما اتجهز للذهاب الى المستشفى تهرع لتضع رسالة في شنطتي و تحرصني ألا افتحها الا عندما أصل الى وجهتي ، و منصور الذي من عادته ان يقفز حولي و يتشقلب بجانبي بكل عنف طفولي، اصبح يهتم بي و يحضنني بكل هدوء و لا يقترب من يسار جسدي حتى لا يؤذيني. و كلما خرج مع والده يرجع و في يده لي وردة صغيرة يقطفها من الشارع، و ان لم يخرج في يوم فإنه ينفض مخدته حتى يتساقط منها بعض الريش ثم يهديني اياه. لدي الان مجموعة لا بأس بها من الريش، الورد الصغير و الرسائل المكتوبة بخط طفولي.
و ما اثار فضولي هو رد فعل الغرباء، بالطبع لم اكن امشي بمكبر صوت و اخبر المارة في الشارع انني مريضة، بل اخبرت كل من سأل عني في مكان عام، و هم بالمناسبة ثلاثة او اربعة أشخاص، و لكنها كانت قصص عجيبة، و لاحظت انهم يشاركونني قصصهم الشخصية و معاناتهم حالما يعرفون ما بي في محاولة لطيفة لمواساتي و بث الأمل في نفسي.
قبل العملية اضطرت ان أُحقن بمصل الحديد لأنني اعاني من نقصه، و في المستشفى كنت جالسة في منتصف غرفة واسعة تنتشر فيها الكراسي الوثيرة ليجلس عليها كل من يحتاج ان يأخذ جرعات من الأدوية او التحاليل، و بما ان ذلك المصل يأخذ ما يقارب الساعة او اقل لينتهي، اخذت الممرضة المسؤولة عني "تدردش" و تسأل ما هي حالتي، شرحت لها حالتي المرضية الغريبة و انني اصبت بسرطان نادر فجأة و بلا اي مقدمات و قد كنت طوال حياتي فتاة صحية و رياضية، سمعتنا ممرضة اخرى من بعيد، طويلة و رشيقة، يغلب عليها الحسن و البشاشة، قالت لي و هي تضحك: انظري الي، اصبت بسرطان في الأمعاء قبل عشر سنوات و شفيت منه و عاد الي من جديد بعد خمس سنوات و ها أنا ذا امامك لم أمت و مازلت مستمرة في الحياة. ثم دارت حول نفسها برشاقة لتثبت لي انها بخير، ثم قالت: خذي العبرة مني، مازلتي صغيرة و يمكنك مقاومة اي شيء يحصل لك، فقط لا تيأسي. أخذنا نضحك و "نسولف" سوالف اخرى و هي تجول حولي تساعد المرضى و تشركهم في الحديث معنا، كانت تجسيداً حقيقياً للممرضة الملاك!
قبل العملية بيومين كنت في محل للملابس لأشتري بعض الملابس التي يسهل خلعها حتى لا تتعبني بعد العملية، و كانت الفتاة التي تبيع مسلمة و ثرثارة، اخذت تبارك لي برمضان و تسألني بإلحاح ما هي خططي لهذا الإسبوع و لماذا اشتريت هذه الملابس، و هل أنا مستعدة لصوم رمضان، لم اعهد هذه الأسئلة من اللاواتي يعملن في المحلات عموماً، و لكن هذه كانت مختلفة، قررت ان احكي لها القصة كبهارات ليومها الذي اعتقد انه رتيب، اخبرتها أنني لا أعتقد أنني قادرة على الصوم هذه السنة، و قلت لها بإقتضاب عن حالتي و ان عمليتي بعد غد، شهقت و امسكت يداي و اخذت تواسيني و تسألني كيف أتمشى بهذا المرض 😂 ثم اخبرتني عن حالتها و انها تعاني من مشاكل نفسية معقدة و تأخذ الكثير من الأدوية و علي ان اكون مثلها و لا أيأس من الحياة!
أما الأخرى فهي فتاة هندية لطيفة تتردد دائماً على المقهى الذي احب ان اتردد عليه انا أيضاً، كنت اراها هناك و تعرفت عليها و "اخذتنا السوالف" و انسجمنا حتى وصل بنا الحال ان نعرض على بعضنا البعض صورنا مع أهلنا، استغربت من اختلاف شكلي الشديد مقارنة بصوري السابقة، قلت لها هذا له سبب عويص، هل انتي مستعدة لسماع القصة؟ رويتها لها، و كنت في ذلك الوقت مازلت في رحلة البحث عن التشخيص المرضي، و من بعد تلك المرة صرت كلما ذهبت الى ذلك المقهى اجدها هناك، فتأتي الى لتسألني ما جديد الحالة، هل عرفوا التشخيص؟ ما هي نتيجة التحاليل؟ و اصبحت احدث تلك الصديقة الغريبة بآخر مستجدات حياتي، و اعتقد انني صنعت لها قصة غريبة تحكيها لمعارفها يوما ما.
كتب تلك التغريدة الكاتب سعود الصاعدي بعد وفاة الأمير بدر بن عبدالمحسن، لا أعلم هل كان يقصده ام انه الشيء بالشيء يذكر؟
و لكن بالرغم من ان التغريدة حزينة و لا تحتمل الضحك، لكني ضحكت عندما قارنتها بالمرضى، حيث ان البعض قد يسأل عن المريض "تأدية واجب" و ليختم ما بينهم بذلك السؤال ظناً بأنه قد يموت، و عندما يخذلهم بإستمراره في الحياة، يصبح امره غير مهم، و لسان الحال يقول "هذا قط بسبعة أرواح، ما جدوى السؤال اذا لم يتبعه جنازة؟"
بالرغم من كل شيء، انا بطبعي اظن بالأخرين دائماً الظن الحسن، اقدم الأعذار للكل و اراعي ظروفهم، و اتقبل تماماً انني لست من اهتمامات الاخرين، و لكني اكن جزيل الشكر و الإمتنان لله رب العالمين انه حباني بصحبة و اهل و معارف غمروني بلطفهم و نواياهم الحسنة.
و قد اقول الان بدون شك أنني اختلف مع الكاتب أحمد حسن مشرف، فهناك من يكترثون لأمرك، و ان كانوا قلة، لكنهم حتماً لن يخذلوك.
اخص بالشكر الجزيل المدون طارق الموصللي و صديقتاي العزيزتان د.ريم و د.عبير، فقد ساعدوني بمشاركتي تجاربهم المقاربة لتجربتي سواءاً بتخطيهم المرض او احد اقاربهم او بخبرتهم الطبية في المجال، و شجعوني الا اقرأ عن المرض و لا تبعاته، و اغمض عيناي و امشي خلف الأطباء بدون سؤال، لأن القراءة في تبعات المرض و مضاعفاته و احتمالية عودته يؤثر سلباً على صحتي النفسية و قدرتي على مواجهته، و ان اخذ كل المعلومات و العلاج بروح مرحة و سعيدة، و الا ألوم نفسي او ابحث في الماضي عما فعلته ليصيبني ما أصابني، و أيضاً ساعدوني في نقل المعلومة لطفلّي و التمهيد لهما حتى لا يتفاجآن.
هذا كل مافي جعبتي لهذا اليوم، كتبت هذه التدوينة على مهل و على مدار عدة أيام، فطالت و طالت و لم استطع ان اتوقف عن الكتابة الا عندما أجبرت نفسي على ذلك، و اظن انه واضح و جلي اشتياقي للكتابة!
هل نقول عدنا إن شاء الله؟
ربما!
مازال طريق العلاج امامي، لكن الحمد لله بدأت بالتحسن، و سأعود للكتابة مالم يحبسني حابس.
طمنوني عنكم، ماهي اخباركم؟ شاركوني ذلك في التعليقات، و كما تعلمون، تعليقاتكم تبهجني و تسعدني دائماً.