غبتُ عن المدونة طويلاً، وكان سبب غيابي المرض بالمقام الأول، ثم مشاغل الحياة المعتادة والغربة، وبرد لندن الذي جعلني اخذ سباتًا شتويًا قاطعتُ فيه كل شيء، والكتابة كان أولها.
احتفلتُ خلال هذه الفترة باجتيازي لمرحلة الدكتوراه، والاحتفال الأكبر كان من نصيب اكتشافي لمرضي -بأمر من الله عز وجل-، وهو مرض نادر جداً كنت أعاني منه خلال معظم فترة دراستي، مما زاد من صعوبتها عليّ وجعلني أتأخر كثيرًا في إنهائها. كانت حياتي خلال السنوات الخمس الماضية أعجوبة، وأعتقد أنها تستحق أن تُروى.
سأكتب هنا. تفاصيل قصتي، وأعراض مرضي (متلازمة كوشينغ المصاحبة لورم سرطاني خارجي يفرز هرمون ACTH او ما يسمى Ectopic ACTH carcinoid tumor ) وكيف اكتشفته، لعله يصل الى من يتخبط و لا يعلم ما الذي يعاني منه، فأنا كنت متخبطة و لم أربط بين الأعراض، و ذلك لأنها تزامنت مع الضغط النفسي الذي عانيته بسبب الدراسة وظروف الحياة، و كنت اعتقد ان كل عرض سببه القلق، وهذه قصة طويلة مليئة بالتفاصيل.
لذا، أيها القارئ العزيز، ضع حزام الأمان واسترخِ في مقعدك، لتحلق معي في رحلة -مقسمة الى اجزاء- عبر أروقة الجامعات والمطارات والمستشفيات، بين عدة مدن متباعدة، في اقصى جنوب الأرض وشمالها، مع بعض النزهات الجانبية في أروقة عقلي وأفكاري المتضاربة، وكلها رحلات – بالرغم من صعوبتها- محفوفة بأجمل أقدار الله ورعايته.
عام ألفان وعشرون
في تلك السنة وُلد طفلي الثاني في أستراليا، إن كنت لا تعلم، فأستراليا فرضت أطول مدة حظر تجول في العالم وأغلقت حدودها لعامين كاملين. غادرتها و كانت تلك الفترة عصيبة غيّرت حياتي وحياة أسرتي تماما. كنت أدرس الدكتوراه، وحِمل الأطفال كان كبيرًا جدًا، وهنا ظهر العرض الأول:
- أصبت باكتئاب ما بعد الولادة فورًا، ثم تفاقمت الحالة حتى أصبحت أنام لساعات طويلة وتُصيبني نوبات هلع، و كانت المرة الأولى التي تصيبني فيها نوبات هلع في حياتي.
- بعد نوبة هلع شرسة، قررت استشارة طبيبة نفسية، فشخّصتني بالاضطراب الاكتئابي الجسيم (Major Depressive Disorder)، وصَفت لي مضادًّا للاكتئاب، لكنها نبهتني إلى أنه سيزيد وزني. كنتُ لا أزال أحمل بعض الكيلوغرامات الزائدة التي كانت طبيعية بعد الولادة، ولست ذات شهية كبيرة بطبعي ولم أكن سمينة يومًا، وكنت أبلي بلاءً حسنًا بالرياضة والحمية، فقلت: لا يهم الوزن ما دامت نفسيتي ستتحسن!و لكن ظل يراودني شعور ان التشخيص غريبٌ علي، لأن طبيعتي لا تميل الى الاكتئاب بل على العكس تماماً، فأنا شخصية مرحة و سعيدة و مبتسمة دائماً. و لكن تقبلته لأني ربطته بالولادة و هموم الدراسة.
عام ألفان وواحد وعشرون
كنت ملتزمة بشدّة بالحمية والرياضة، أطبقها بحذافيرها وبدقة صارمة جدًّا، وفي الوقت نفسه أعاني من ضغوط الدراسة والأطفال، وفي تلك السنة ظهرت أعراض إضافية:
- الأرق الشديد، لم يكن أرقًا عاديًا؛ بل كنت أنام الساعة العاشرة مساءً وأستيقظ الساعة الواحدة صباحًا، ويبدأ يومي منذ منتصف الليل. واستمر ذلك أيام متواصلة حتى أصبح أشهراً ثم سنوات!
- كنت دائمًا أشعر بالتوتر، فلا أرحم نفسي؛ أكتب أو أعمل أو أرسم أو أتمرّن أو أقرأ على مدار الساعة، فلا تمرّ دقيقة من يومي بلا شيء أفعله.
- في رمضان من ذلك العام سقطت في وادٍ عميق من الاكتئاب الشديد، حتى زادت الطبيبة جرعة مضاد الاكتئاب، وتزامن ذلك مع زيادة مجنونة في وزني خلال أيام معدودة، كنت أراقب وزني وأكلي عن كثب، ولكن للأسف زدت خمسة عشر كيلو غراماً، وانتفخ معه وجهي بطريقة غريبة، اختفت حدوده، وغاصت وجنتاي في الشحوم، و كل من يراني يقول ان وجهي هو أسمن ما فيَّ!
كان الوزن مؤرّقًا جدًّا لي، فلم أستطع إخفاءه أو التغلب عليه، وكنت أعزيه الى الاكتئاب وأدويته، وأقول إني سأتحمّل حتى أنتهي من الدراسة، ثم أترك الدواء تدريجيًّا ويعود وزني كما كان.
عام ألفان واثنان وعشرون
استمرت الأعراض كما هي، وزاد عليها:
- تشقّق جلدي بسبب السمنة- أو هذا ما كنت أعتقد- لكنها كانت تشقّقات بنفسجية اللون، لم يتغير لونها مع مرور الوقت.
- انتفخت قدماي جداً، تكتل الماء فوق الكاحلين حتى اضطررت الى تغيير مقاس أحذيتي.
- أظهرت تحاليل الدم ارتفاعًا شديدًا في سكر الدم (ما قبل السكري)، وارتفاعًا أشد في الكولسترول، وبعض التغيرات في قراءة الدم (complete blood count)
- زرت طبيبة باطنة لأستشيرها بشأن السمنة والنتائج، فصرفت لي دواء Rybelsus، وهو عقار للسكري يُستخدم أحيانًا للتخسيس مادة السيماغلوتايد نفسها في حقنOzempic .
كانت تلك الفترة فوضوية جدًّا؛ لم أستطع التركيز على صحتي، وانتهى بي الأمر إلى الانتقال بين الدول مع اسرتي، لأنهي دراستي التي كانت تجثم على صدري، ومعي أطنان من التوتر والقلق والسمنة، كنت أبدو مثل بالون على وشك الانفجار، أخذت حبوب التخسيس وحبوب الاكتئاب معي معتقدة أني وجدت الحل، لكني خسرت أربعة كيلوغرامات فقط من وزني، ثم عاد الوزن ليزحف مجددًا الي!
بداية عام ألفان وثلاثة وعشرون
كنت فيما يُسمّى “عنق زجاجة” الدكتوراه؛ أتعرض لضغط شديد في الجامعة، ضغوط دفعتني للتفكير في الانسحاب منها، كانت الظروف تزداد صعوبة مادّيًّا ونفسيًّا، وكنت حبيسة في جسد يتآكل ويتهالك، جسد لا يشبهني، تغيّرت ملامحي جذريًّا، وانتفخت عيناي ووجهي، وتغير شكل جسدي تمامًا. وفي هذه السنة ظهرت أعراض جديدة:
- شعري تحول الى شعر شخص اخر: البداية كانت بتغير فروة رأسي الى دهنية، وبعدها انقلب شعري المموج الكثيف إلى شعر مجعد تجاعيد شديدة كأني خُلقت بها، ثم بدأ يتساقط تساقطاً مريعًا، فأصبح شعري مليئًا بالفراغات وخفيفًا لا يكاد يستر فروة رأسي.
- امتلأ وجهي بالبثور، وأصبح وجهي أحمر اللون بشكل غريب لا يتناسب مع طبيعة لوني، وصار الجلد رقيقًا جدًّا حتى انه كان ينجرح من ملامسة الأقمشة والملابس!
- ضعف شديد في النظر مع جفاف شديد في عيني.
- ظهر تكتل دهني خلف الرقبة، او ما يسمونه بـ buffalo hump.
- وأشد ما أصابني هو ضمور في عضلات أطرافي العلوية والسفلية حتى صار المشي صعبًا، وكنت أتعثّر وأسقط كثيرًا بسبب هذا الضعف الشديد، وفي مرة وقعت في الحرم الجامعي وضرب رأسي الأرض الاسمنتية حتى ظننت انه تهشم -رأسي و ليس الاسمنت- ، واصابتني تلك السقطة القوية بارتجاج في الرأس أدى إلى بقائي طريح الفراش أيامًا.
- في هذا الوقت الصعب قررتُ التوقف التدريجي عن تناول حبوب الاكتئاب؛ خِفت أن تنتكس حالتي، لكن شعوري بالسمنة والتغيرات الجسدية التي كنت أحسّها- والتي كنت أعتقد أنها بسبب الأدوية- جعلتني اتخاذ قراراً صارماً بإيقافها، وبعد استشارة صديقة لي متخصصة في طب الأسرة، أوقفتُ الأدوية.
منتصف عام ألفان وثلاثة وعشرون
ذهبتُ إلى طبيبة عامة في استراليا وشرحتُ لها حالتي وذكرت أنني أعاني من سمنة لا أعلم سببها، بعد أن غفلت عن بعض التفاصيل والأعراض التي كنت اعتقد انها بسبب التوتر والقلق، قالت لي: “سأحولك إلى جراح سمنة” واقترحت قصّ معدتي؛ بلا مقدمات انهرتُ بالبكاء أمامها في العيادة، قلت لها وأنا أمسح دموعي “ألا تعتقدين أن هذا آخر الحلول؟ إنه تدخل عنيف لا رجعة بعده!” فردّت بكل برود ولا مبالاة “أعتقد أنك جربتِ كل شيء، وحان وقت التدخل الجراحي”. طلبت منها على الأقل إجراء تحليل لهرمون الكورتيزول لأنه مسؤول عن التوتر والقلق (وأعلم جيدًا أن ارتفاعه يسبب السمنة)، لكنها رفضت معتبرة أنه غير ضروري، ووافقت فقط على فحوصات دم عادية.
خرجتُ من العيادة وأنا في دوامة حزن عميقة، وأبكي وكأنني فقدتُ عزيزًا للتوّ. واتخذت قراراً لا رجعة فيه أنني لن أتخرج من هذه المرحلة الدراسية القاسية وانا مصابة بالسكري او بارتفاع ضغط الدم، وبدأت نظام صيام متقطع قاسٍ (٣٦ ساعة صيامًا تامًا- أشرب السوائل فقط)، فقدت خلالها ثمان كيلوغرامات بصعوبة، ثم تعود هذه الكيلوغرامات مرة اخرى، وأرجع للصيام، وهذا ما جعل وزني يتأرجح.
زرت طبيبًا آخر فأخبرني أنه سيحولني إلى استشاري غدد صماء خوفًا من إصابتي بالسكري من النوع الثاني-وهذا كان التصرف الصحيح من طبيب عاقل- كنت متحمسة لذلك الموعد لكن الوقت كان ضيقًا بسبب قرب موعد تسليم رسالة الدكتوراه، وبعد التسليم مباشرة غادرتُ أستراليا مع أسرتي إلى لندن.
نهاية عام ألفان وثلاثة وعشرون
في لندن ازدادت الأعراض حدةً بشكل سريع:
- فلم أعد أستطيع صعود الدرج إلا بمساعدة، واحتجتُ إلى عصا لأتوكأ عليها عند المشي.
- انتفاخ جسدي بالسوائل وصل الى أقصى مراحله.
- وعاد الاكتئاب ينهش روحي أكثر، كرهت النظر في المرآة وكنت أبكي كلما رأيت تلك المرأة التي لا تشبهني ولا أعرف من هي!
انهمكت في البحث عن سبب علّتي؛ لم أقتنع يوماً أن هذه سمنة طبيعية. بدأتُ أضع حبات الأحجية بجانب بعضها، كلها تشير إلى ارتفاع هرمون الكورتيزول، كما كنت أتوقع، و هو هرمون القلق و التوتر، و هو الذي ينظم النوم و يساعد في تنظيم السكر و ضغط الدم.
أثناء بحثي وجدت أن أعراض مرض كوشينغ تتشابه مع حالتي، وهو مرض نادر يصاحبه ارتفاع شديد و مرضي في هرمون الكورتيزول، ولأنه مرض نادر، كنت أقرأ اسمه وأشيح بوجهي عنه وأقول مستحيل أن أكون انا الواحدة في المليون التي تصاب به!
وظلّ هناك سؤالٌ وحيد لم أجد له تفسيرًا: لماذا تحول شعري إلى مجعد؟ اعراض كوشينغ لا تفسر تغير الشعر هذا، حتى شاهدتُ فيديو لفتاة مصابة بكوشينغ ذكرت أن شعرها تحول من مستقيم إلى مجعّد( في الدقيقة ٦:٣٠)، فشعرت أنني وجدت القطعة الناقصة في الأحجية!
ثم بدأت أبحث عن أناس اصابهم المرض، ووجدت ان جميعهم يشبهونني، نفس الملامح والجسد والأعراض (مثل هذه السيدة) ، بدأت اقرأ الأبحاث و الدراسات عنه، وحدسي يقول ان هذه هي علتي!
بداية التشخيص
في ثاني أسبوع لنا في لندن طلبتُ على الفور عدة تحليل الكورتيزول (عن طريق اللعاب) عبر موقع مختبر على الإنترنت. عادت النتيجة بعد أيام، في أسوأ توقيت، كانت الساعة السادسة صباحًا قبل أن ابدأ تجهيز أطفالي للمدرسة، و النتيجة تشير الى ان الكورتيزول كان مرتفعًا جدًّا طوال اليوم، وذكر التقرير انه يجب أن أراجع طبيب غدد صماء عاجلًا. قرأت النتيجة وبكيتُ- كالعادة- ثم أرسلت النتيجة إلى صديقتي الرائعة عبير، الاستشارية في الغدد الصماء بالرياض، فاتصلت بي فورًا لتسألني عن بقية الأعراض- تلك التي لم أخبر بها أحدًا مثل ضمور العضلات وصعوبة المشي- وطمأنتني بأن كل شيء سيكون بخير، لكن علي ان اكمل الفحوصات عند طبيب مختص. ذهبت فوراً الى طبيبة عامة ومعي نتيجة التحليل. ما إن رأَتني حتى استنتجت أنني أعاني من مرض كوشينغ لأن وجهي كان منتفخًا جدًّا، وهو ما يسمّونه وجه القمر Moon Face، وحولتني تحويل عاجل الى طبيب غدد صماء مختص في أحد المستشفيات العامة.
خرجت من ذلك موعدي مع الطبيبة العامة وانا اشعر بمزيج من الصدمة والشعور بالذهول والامتنان لله انه دلني بعد كل سنوات من المعاناة الى ما اعتقد انه الجواب لهذه المعضلة!
وفي بداية سنة ٢٠٢٤ دخلت في دوامة الفحص و التحاليل مع استشاريي الغدد الصماء و بعدها اكتشاف المرض ، و الذي كان صدمة اخرى، ولكن هذه قصة طويلة يجب ان افرغ لها تدوينة ثانية، لذا انتظروني الأسبوع القادم!
ملاحظة:
اللوحة في مقدمة التدوينة من رسمي لبطل فيلم The Whale، رسمتها لأنها تذكرني بطريقة ما بكوشينغ، اللوحة مقتبسة من بنترست